مقال الوزير د. سليم الصايغ الى مجلة "المسيرة" -
للعدد الخاص بعيد مار مارون
01-02-2012أن نحتفل في عيد مار مارون هو أن نستلهم مبادئ الإيمان الماروني وأن نعيش المبادئ المارونية وأن نهتدي بأنوارها من لحظة الوعي الحقيقي للفرد الى لحظة الوعي للدور المتخطي للذات.
المارونية قامت وتطورت على أصول وروح التعاليم الرهبانية وملؤها زهد بالحياة، وانكفاء عن السهولة، ونبذ للميوعة، وتفضيل للاستقامة، وتسليم للحق، وترسيخ للبأس، وتجذير في الأرض، وتنشئة للفكر، وفي كل ذلك تثمين للحرية.
فبإسم الحرية، حرية الإيمان والمعتقد والإنسان، أطلقت المجموعة المارونية من الأديرة المشروع الحاضن للكرامة الإنسانية لأن سمو الإنسان عندها هو من سمو الله.
الحرية والمارونية صنوان لا يتشبهان إلا بالمطلق الذي لا قوة عليه ولا سلطان، ولا كمالَ إلا به، ولا ارتقاءَ إلا نحوه، هذا ما دعا إليه مار مارون وعززه مار يوحنا مارون والبطاركة القديسين من بعده.
هذه العلاقة الخاصة بين الحرية والكرامة، بين الصلاة والحياة، بين المبدأ والعمل، بين الكونية والخصوصية أعطت شخصية فريدة للمارونية بحيث أصبحت عندها مساحة القداسة واحة للصلاة وساحة للجماعة وحدودا للوطن...تلك كانت عناصر الأمة المارونية.
السيادة في المفهوم الماروني بدت كنتيجة منطقية لفعل الحرية ومشروع الكرامة، فالمدى الحيوي الماروني هو مدى الحرية. فغدت ال 10452 كلم المساحة الجغرافية للوطن الذي أراده الموارنة أساسا ومنطلق.
فمن الدير الى المدرسة، ومن القلعة الى الساحة، ومن المغارة الى المنارة، ومن الجل الصغير الى الحقول الواسعة في بلاد الإنتشار.
ومن النقل الى الابتكار، ،Polyglot فمن السريانية الى البوليغلوتية
فتح الموارنة بإسم الحرية حدود العالم ودخلوا الى الكون وأبدعوا، فقهروا علم الجغرافيا والديمغرافيا ليكون لهم علم الإبداعغرافيا (والعبارة للشاعر هنري زغيب) فجعلوا الإبداع منزلا ليضيق بهم العالم فربحوا لبنان الوطن لجميع أبنائه.
فمن الأمة المارونية الى الأمة اللبنانية وبإسم الحرية والكرامة والسيادة والإبداع طوّر الموارنة الشخصية اللبنانية وكرّسوا نهائية لبنان، من دون أن يخسروا وطن الرسالة للإنسانية جمعاء.
هذه الطبيعة المركبة للإنسان اللبناني، أنتجت هوية غنية ومتعددة للمجتمع، فطبعت عملية تأسيس لبنان الدولة وأنتجت الميثاق الوطني وها هي اليوم تعطي للُبنانيين ميثاقا "إجتماعيا" وللعرب شرعة للتلاقي بين الحضارات والثقافات والأديان في عصر الربيع العربي.
إن تأسيس لبنان الدولة ما كان ليتم لولا قدرة الموارنة على نقل مفهوم المواطنة من الطائفة الى الوطن، دون أن تصبح الطائفة ضد الوطن أو بالعكس، الوطن ضد الطائفة.
هكذا أصبح الماروني مؤتمناً على الانتقال الكامل في لبنان الى الدولة المدنية تماما كما كان مؤتمنا على عملية الانتقال الى المواطنة.
فالمواطن، اللبناني الانتماء ، الماروني الإيمان هو حامل وزنات متعددة، أولها وزنة الائتمان على الوطن كمساحة للايمان الحر، والحوار الدائم، والتفاعل الحضاري في زمن التحديات الطائفية والمذهبية، خاصة أن لبنان الوطن يذخر بكل الأبعاد الروحية والمادية للقيم المارونية. وثانيها وزنة الائتمان على مبادئ مارونيته، بحيث عليه أن يعيش واجباته وحقوقه تجاه الدولة كما أن عليه علاوة على ذلك أن يحيا إيمانه الماروني الكامل في أدائه المجتمعي والإنساني من العائلة الى العمل فالساحة والسياسة. إنه نموذج الإنسان الصادق المستقيم الجريء المسكون بروح التعاليم الرهبانية ووصايا القديسين، المدرك لكل مترتبات الحرية والكرامة والسيادة والابداع، الشاهد للحق وللحقيقة، الخادم للناس وكرامتهم حتى الاستشهاد.
ففي عيد مار مارون الملفوف بالقلق حول مصير المسيحيين في الشرق، يقف موارنة لبنان، أصحاب الدور الخلاق المبدع للتذكير بدعوة المسيح إليهم "لا تخافوا". إن التأكيد على متانة كينونتهم المتجذرة الرسوخ بالحق في الشرق، يقترن بتفعيل صيرورتهم الدائمة التفاعل بالخير في هذا العالم.
ولعلّ في انحسار التأثير الإقليمي فرصة لتوسيع مساحة الحوار، وكلما تلهى عن لبنان الآخرون، تكبر فيه فرص النجاح. ولئن لم يستطع الماروني أن يبادر دوما في طرح مسألة السلم الأهلي، فهو القادر على التواصل مع الجميع في ظل فتنة مستشرية وصراع مذهبي يدق على الأبواب.
لذلك يلعب الماروني، دورا فاعلا ومؤثرا في ظل المتغيرات الإقليمية والكونية، مدركا لأهمية التواصل مع عناصر التغيير في العالم العربي، متسلحا بمبادرة بعض أركانه، من كلام رئيس الجمهورية حول لبنان مساحة حوار، والتزام البطريرك بشارة الراعي قضية الحوار الإسلامي-المسيحي، وإعلان الرئيس أمين الجميل شرعة تلتزم بها الثورات العربية المنتصرة.
إن المبادرات المارونية المنهل، اللبنانية الهوية، المشرقية المضمون، الكونية المدى، تؤكد على حيوية وحداثة وقدرة ليست غريبة على الموارنة، لا في عصر الإمارة ولا في عهود الجمهورية الأولى.
كان الموارنة في لعبة الجرأة كبار، وفي زمن الفصل والقطع جسور عبور...إنهم أبناء العهد الجديد. فهل يكونوا أبناء العهد المتجدد؟ إن بادروا فَصَلوا بالحق وعَبَروا بالحقيقة، وإن أحجموا سقطوا بالخطيئة واندثروا بالباطل، ولن يحجموا!
________________________