"قولوا الحق...والحق يحرركم"
لقد بدأت الثورات العربية بالقول نريد إصلاح النظام، والدعوة إجتماعية – حقوقية - إقتصادية وقبل كل شيء قِيَميّة...
بمعنى نريد استعادة الكرامة والنظام العادل كإطار ناظم لها. وانتهت الثورات الى المطالبة "نريدك أن ترحل"، بمعنى نريد تغيير النظام، والمطالبة هنا سياسية.
لقد بدأ التغيير إذا بالمطالبة لإحقاق البديهيات، بالمطلق البسيط الجزئي والقريب من هموم الناس، لينتهي الى المطلق الشامل الحامل لأحلام الناس، والاستجابة الى المطلق الشامل لا تكون إلا على المستوى الحضاري.
وإجابتنا على ذلك تأتي في قسمين:
1 الميثاق الاجتماعي من لبنان الى العرب
2 الميثاق الاجتماعي من العرب الى الإنسانية
في زمن الربيع العربي يبرز زمن التغيير، وأول التغيير تعبير، وفي التعبير كلمة تفتش عن الحقيقة في مهاجر الوجدان وفي غياهب الزمان وفي مجاهل الجغرافيا المتحركة.
في زمن التغيير العربي، لا يأتي التمييز إلا بين المطلق القابض على الحق أو الباطل والبين بين، القابض على سراب التأقلم مع الباطل أو الإستنساب في الحق. في زمن التغيير لا يكون العنوان إلا مجردا، فلا توصيف يليق، ولا توضيح يطلب، ولا تكبيرا أو تصغيرا يستحسن...فعنوان التغيير في زمن الربيع العربي هو واحد أحد لا يقبل الشراكة ولا الإشراك... ولا حتى تعدد الزوجات، إذ لا شراكة مع الإنسان الصانع لمجده، القابض على مصيره. ولا إشراك، وفيه أن الكرامة هي قيمة مطلقة لا تحتمل التأويل أو التمييع أو التصنيف أو الاجتزاء أو التصريف...وقلنا أن التغيير لا يقبل حتى تعدد الزوجات...فهو التزاوج بين مكونين لا ثالث لهما. فعل الإرادة الحرة وكبر الحلم عند الشعوب.
إن فعل الحرية في كل إنسان يجعل من الكرامة أكثر من مفهوم وأعمق من قيمة وأكبر من عنوان. إن حركة التغيير الكبرى وليدة الربيع العربي، تعطي للكرامة بعدا سياسيا بعد أن كانت منكفئة في بعدها الإنساني، وتمدها بالمدى الاجتماعي بعد أن كانت مرتاحة في المبادئ والمفاهيم وتطرحها ثورة أصيلة لا تنضب كحقول النفط أو الغاز، ولا تزهق على مذابح الربحية والتنافسية والفردية المطلقة، ولا تنكسر بفعل هزة أرضية أو أزمة مالية. من هنا يأتي زمن التغيير، لا بل زمن العهد الجديد، ليعلن: نعم للإنسان لا للأنظمة الجائرة، نعم للشعب لا للحاكم الظالم. إن إعادة الإعتبار للكرامة تؤدي الى استعادة مركزية الإنسان في المجتمع والدولة والأنظمة.
1 الميثاق الاجتماعي من لبنان الى العرب
لقد قلنا بذلك قبل الربيع العربي وسطرناه ميثاقا اجتماعيا للبنان تطبيقا لما كنا قد وضعناه في بند من البيان الوزاري عام 2009 قبل سنة بالضبط من الثورة التونسية وإعلانه في هذه القاعة بالذات عشية الثورة المصرية بحضور ومشاركة مختلف القوى السياسية التي اجتمعت كعاميات إنطلياس ولحفد في القرن التاسع عشر لتعمّد هذا الميثاق إجماعا وطنيا بالرغم من الانقسامات في عهد حكومة تصريف الأعمال قبل الثورات العربية، وأقول الثورات وليس الانقلابات، وشتان بين المفهومين، قلنا بالتغيير الذي هو من فعل الحرية وقلنا أن فعل الحرية من الإنسان ويبدأ به وينطلق منه ليحرر المجتمع كله.
لم نكن نعلم يومها أن وقفة عزٍ لإنسان بسيط مهمش أمام الشرطة في تونس ستحرر مجتمعا بكامله من كل عقد الخوف والنقص والانصياع المطلق للسلطة الغاشمة.
لم نكن ندري يومها أن مناشدة الميثاق الاجتماعي اللبناني الإنسان للارتقاء من أجل تحقيق مشروع الحياة الذي يؤمن به، سيلقى صدى في شوارع القاهرة وطرابلس الغرب وبنغازي وسيطلق العنان للوعي الفردي ولفعل الحرية.
لم نكن نقدّر أن الدعوة في الميثاق من أجل الإدارة الأفضل للتعددية والاختلاف ستطرح في ما بعد كل إشكاليات المشاركة في الحياة العامة واحترام الخصوصيات المجتمعية، وتؤسس لأهم حركة تفاعلية بين الأديان والطوائف حول مسألة الحريات والحقوق في عصر الحداثة.
لم نكن نرى ان القول أن الميثاق الاجتماعي يحفز الدولة على تمتين وتطوير الوطن وإرساء قواعده على مبادئ الديمقراطية وحقوق الإنسان سيكون عنوان تكريس منجزات الثورات العربية في لحظتها الدستورية وانعطافتها القِيَميّة.
لقد طرح الميثاق الاجتماعي المسألة الاجتماعية بكل إشكاليتها، وأجاب عنها بنظرة شاملة وكلية للإنسان في علاقته بالمجتمع والدولة.
فهو من ناحية يظهر معنى وقيم وقواعد وضوابط الاحتكام والتصرّف بما ينسجم مع ثقافة المجتمع وقيمه كما أنه يحدد الأطر والتوجهات العملية المنبثقة عنها. وبالتالي يجيب الميثاق عن الإشكالية الاجتماعية بمبدأ العدالة الاجتماعية وانفتاحه للتعددية في النوع والثقافة وتفاوت الأجيال والقدرات الطبيعية، كما بتشكيله مساحة للحوار الديمقراطي والتفكير المتفاعل والمتبادل للخبرات وعقد الصلات بين كافة الجهات الرسمية والمدنية من أجل إزالة كل ما يعوق نمو الإنسان بكليته وكل إنسان بخصوصيته.
ويثمن الميثاق كذلك أهمية التضامن الاجتماعي مع ما يترتب عليه من التزام بمصالحة المجتمع مع ذاته خاصة بعد كل الانقسامات والاهتزازات التي شهدها منذ عقود من الزمن، فيصبح بذلك في خدمة كل إنسان، لا بل كل إنسان بأبعاده الفكرية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية.
لذلك اعتبرنا أن طبيعة الانسان هي بالتخطي لذاته وهي مرتبطة بقضية الخلق المستمر والابداع في بيئة يفعل فيها ويتفاعل معها. وفي ذلك دعوة الى التحوّل من حال الى حال أفضل لمواكبة متطلبات العصر والحداثة. إن الدعوة الى التحول القائم على الالتزام بالأخوة والتضامن بين الناس كأفضل وسيلة للتغيير في الإنسان والمجتمع لها بعدها، القِيَمي، والانساني وكذلك بعدها الاجتماعي والسياسي.
فمن يقول بالتحول يقول برفض الحال القائمة، ومن يدعو الى تحرير المجتمع يدعو الى عملية سياسية كبيرة، ستسهّلها وتمهد لها الثورة العربية بعد أن أعطاها مفاهيمها الميثاق الاجتماعي اللبناني.
2 الميثاق الاجتماعي من العرب الى الإنسانية
لقد صنعنا في لبنان ميثاقا لنا وفيه نموذج حضاري يقتدى به، فهو عابر للثقافات وحافظ للخصوصيات ورابط بالإنسانية. وهذا ما شرحناه للوزراء العرب منفردين ومجتمعين قبل الثورات العربية وبعدها. وكل منهم يعرف واجباته تجاه شعبه ومشاربه الروحية والثقافية.
إلا أن السير على طريق الكمال في كل بلد عربي والتفاعل بين مكونات كل مجتمع والتكامل بين كل الأوطان العربية يفرض حوارا حضاريا يغني الوحدة الانسانية ويريح الخصوصية الثقافية فيكون للكل إمكانية حقيقية للرفاه والطمأنينة.
ما يستطيع أن يقدمه العرب الى العالم هو قدرتهم على تحويل الطاقات الخلاقة والمبدعة في مجمعاتهم الى فرص تألق للإنسان ولتعزيز كرامته المطلقة. ويكون ذلك بالدرء عن الانحراف على طريق السهولة المبسطة تحت عناوين الديمقراطية العددية والمساواة المُعقِمة للثقافات والخصوصيات.
من هنا، اقتراحنا للعرب باعتبار التمايز الثقافي والعرقي واللغوي والديني هو إثراء لمشروعهم الحضاري الذي لا يختصره ثقافة أو عرق أو لغة أو دين. من هنا ضرورة التحرر من ركاب الماضي المثقل بالايديولوجيات المستوردة والنهل من مشارب التعاليم التي أعطتها الديانات السماوية للعالم من أرضنا، ووضعها في قالبها الحضاري الأصيل كردٍ على تحديات العولمة والتصحير الثقافي والقولبة الاقتصادية والتعليب الفكري. والمحاولات الجدية قد بدأت، بطرح رئيس الجمهورية للبنان كمساحة للحوار بين الحضارات، ونداء البطريرك لتفعيل الحوار الاسلامي-المسيحي، ومقررات سينودس أساقفة الشرق، والبيان التاريخي لشيخ الأزهر حول الحريات، وشرعة أمين الجميل حول احترام التعددية، والميثاق الاجتماعي الذي وضعناه، هو حركة صحيحة وصحية، ان دلت على شيء فهو على طليعية لبنان في هذا الشرق والسر في حرياته وتنوعه، وعلى الوعي العربي لأهمية النهضة التي تنتظرنا.
عندما وضعنا الميثاق، قلنا ما حرفيته: "كان اللبنانيون رائدين في النهضة الثقافية العربية وهم اليوم رائدون في النهضة الإجتماعية العربية، ولربما يأتي يوم نكون فيه رائدين في النهضة الاجتماعية الحضارية الكبرى."
والانطلاق في ذلك، يكون بحسب رأينا، باحترام النقاط العشر التالية:
1-إنطلاقا من مبدأ وحدة الإنسانية يجب العمل على مصالحة تاريخية بين مختلف المجموعات، ويكون ذلك عبر الانخراط الملتزم في الدفاع عن حقوق كل إنسان من دون أي تمييز أو استثناء.
2-إن النهضة الحقيقية للدول العربية لا تتحقق إلا على أساس ثوابت الديمقراطية وقبول الاختلاف والعمل المشترك، فيتم وضع الكرامة الإنسانية في صلب الاهتمامات، وهي قضية لا تتجزأ، لا في الحقوق السياسية أو الحقوق الاقتصادية أو الحقوق الاجتماعية أو الحقوق البيئية. وهي لا تنفصل عن مسألة احترام الحريات العامة، التي يجب أن تكرّس في النصوص الدستورية، فيتم الدفاع عنها برغم الاختلاف السياسي أو الطائفي.
3-إحترام الخصوصية المجتمعية بما فيها التنوع والتعددية بأشكالها السياسية أو الثقافية أو الطائفية لكل المجموعات المكونة للمجتمع بشكل يؤمن التفاعل بالتكامل لا الانصهار. وقد كان من الصفات البارزة للمجتمعات العربية والشرقي منها بنوع خاص، انها نشأت بالتنوع، وهو ثراء لها على الصعد الإنسانية والثقافية، مما سهل الأنفتاح على الحداثة والتطور.
4-إعتماد قيم المساواة والعدل في بناء المواطنة الحقة، واتخاذ القرارات السياسية عبر الأسس والمفاهيم الديمقراطية، لاسيما منها الشورة الملزمة التي تضمن حقوق الجميع من قبل الجميع.
5-وضع نظام سياسي حر وديمقراطي، بعيدا عن النموذج التيوقراطي مع احترام كتلة المبادئ والقواعد العامة التي تضعها الشرائع السماوية، بشكل يؤمن عدالة التمثيل وحقوق الناس وحرياتهم، والفصل بين السلطات وتداولها بشكل سلمي شفاف، مؤمنة بذلك استمرارية إنجازات الربيع العربي.
6-العمل إنطلاقا من مبدأ عدم إمكانية تجزئة الحقوق السياسية منها والإقتصادية والإجتماعية على تحرير الشعوب من كل اشكال الفقر والجهل والتخلف والحرمان، ويتم ذلك باعتماد ميثاق إجماعي يقوم على أسس مبادئ الشراكة والمحبة والتضامن وحماية الخير العام ودعم المبادرة الفردية، وتؤمن من خلاله كافة الحقوق الإجتماعية والإقتصادية.
7-التأكيد على الحق بالعيش بسلام، وهذا يعني سلاما صادقا وعادلا ونهائيا، بإيجاد حل عادل للقضية الفلسطينية.
8-التنديد بكل أشكال القهر ورفض العنف والإرهاب من أي جهة أو تطرف ديني، واعتماد الوسائل السلمية المكفولة دستوريا لحل النزاعات أو الخلافات.
9-تفعيل الحوار الإسلامي-المسيحي-اليهودي، ليتم إرساء القواعد لتربية مواطنية تعزز قبول التعددية الدينية وتقوم على الإحترام والتقدير المتبادلين بعيدا عن كل أشكال العنصرية والتمييز العرقي والديني والطائفي.
10-إعتماد بيان الأزهر حول التحديات الدينية في مقدمة كل الدساتير العربية.
___________________