حياطة، أرض الميعاد
قبل أن يغادر هذا العالم بأيام،
وفي زيارة لابنه في باريس، أوصاني بيار والدي قائلا: "عندما تعودُ الى لبنان،
لا تنسَ حياطة أبدا...بأي شكل عُد إليها..." وكان الوعدُ...كان ذلك في عزّ
"حرب التحرير" عام 1989... وبعد عشرين عاما، وشاءت العناية أن ألبّي
دعوة "عبّود" لكي أحاضر في حياطة بصفتي الجديدة كنائب لرئيس حزب
الكتائب.
وكان اللقاء... وحصل الإلتقاء...
وَقعُه عليّ كحُبّ النظرةِ الأولى...ولو كنتُ قد زُرتُ حياطة يافعًا مراتٍ
عدة...
ذلك اليوم، أدركتُ أن تلك العيون المتوقدة التي تشخص إليّ، وتلك الأيادي
الحنونة التي تشدُ على يديّ، وتلك القبلات الحارة التي تنهمرُ على وجنتيّ، قد
حرّرَتني دفعةً واحدة من غربتي الطويلة، وزرعتني من دون استئذانٍ في أرضِ
الميعاد...
وهكذا بدأت الحكاية، حكايتي مع حياطة، فتوالت فصولاً عديدةً، لو أنني لم
أكتب منها إلا القليل القليل... لأن الحكاية مع حياطة وأهلها، تسطّرها ضحكات
الأطفال المرحّبة، ولهفة "الكبار" العابقة بأريج السنين الطيبة، وتخطّها
الألفة التي لا تعكرها النكايات الحادة والمهضومة، ولا تؤثر فيها سياسة أو
استحقاق، وإن حصل، للحظة أو برهة أو ليلة، فسرعان ما تفعل حكمة الأبونا، لا بل
الآباء القديسين فيها، يوصّون ويعلّمون ويرعون، قبل أن تأتي المساندة من المختار
(رحمه الله) وصوته الذي يلعلع وينهر ويدلّ، في وقت يتحرّك الريّس، على رأس
البلدية، بحركة كلّها بركة لتدوير الزوايا وترسيخ الوحدة، كلٌ على طريقته، وفي
مجاله يحافظ بِرُمُوش العيون على "الضيعة"...
الحكاية تكمّلُ، وأوّل فصولها فصلُ "فعل إيمان" مع الوقف ولجنته،
يحيي الكنيسة شعبًا، ويعليها بناءاً،
وفصلُ "فرح المشاركة" مع
فرسان العذراء في نشاطهم الذي لا يهدأ،
وفصلُ الارتقاء" مع جوقة الرعية بأصواتها الملائكية، وكذلك مع الأخوية
الناشطة للخدمة والهِداية،
وفصلُ الإبداع مع شعراء الضيعة
المعروفين بسخاء المخيلة،
وفصلُ التنمية مع مركز الشؤون
الإجتماعية بخدماته وحضوره وحيويته.
فكلٌ من ضيعتي يؤلف فصلاً جميلاً، من حكاية تربطني ولا تفلتني، إلا
لأعود...الى أرض الميعاد.
ما أحلاها هذه الحكاية يوم نقلتُ رفات الوالد الى الضيعة، عندما كنتُ
وزيراً، بصمتِ، لتجنّب القيل والقال من أولاد الأفاعي الذين يسيّسون كل شيء، وقد
حصل ذلك تماماً كما شاءت الوالدة ساميا وهي التي أرادت أن ترقد الى جانب رفيق
العمر فتواكبه كما في الحياة كذلك في الخلود...وكان لها ما أرادت...وهكذا لنا
ولأولادنا ولأولادهم من بعدنا، لأن كل شيء قد يتغيّر من عناصر الأزمنة، ومعالم
الطبيعة، أنما قبورنا ستبقى، وهي الشاهدة على حقيقتنا، وهي تاريخنا وتاريخٌ عليه
نتكئ من دون أن نتّكل...
وكما أن تاريخُنا فيه عطشٌ مزمنٌ الى الحقيقة والمساواة والعدالة...فإنه
كذلك تاريخاً يزهر كل صباح محبة متجددة لا تنضب...لأنها من محبة الله التي تلم أبناءها،
وتنير قلوبهم، فتحضن وتدفئ وتبلسم وتنير وترفق
وتسامح...
إن تاريخنا وفاء لأصالةٍ ضيعتنا التي جَبَلت طباع أهلها بطبيعة أرضها
فأذكَتهم وأذكوها...
إنها باختصار، يافطة يوم استقبال الذي "مجدُ لبنان أُعطِيَ له"،
تجمع لأول مرة بالترحيب الكتائب والقوات والتيار، فتكون عِبرةً لغيرها ممن يريد
الاعتبار.
فالى جدّي سليم، وجدّ أبي بطرس، أقول مطمئناً: حياطة بألف خير، وهي أحسن
وأحلى، وأكبر وأطيب،
لم تهجرها لا المدنية ولا الإنسانية،
فيها لا زالت الحداثة عراقة،
والفضيلة خصالاً،
عذوبتها لا تنضب وزيتونها لا يعتب، وخميرها عتيق في سرّها العميق،
يمجّد ميلاد...أرض الميعاد.
سليم الصايغ
____________________
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire